الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وهذا ما نحاول بيانه بعون الله. والله أعلم بمراده، إنما نحن نفسر كلامه بقدر إدراكنا البشري..إن الرسل عندما يكلفون حمل الرسالة إلى الناس، يكون أحب شيء إلى نفوسهم أن يجتمع الناس على الدعوة، وأن يدركوا الخير الذي جاءوهم به من عند الله فيتبعوه.. ولَكِن العقبات في طريق الدعوات كثيرة. والرسل بشر محدودو الأجل. وهم يحسون هذا ويعلمونه. فيتمنون لو يجذبون الناس إلى دعوتهم بأسرع طريق.. يودون مثلًا لو هادنوا الناس فيما يعز على الناس أن يتركوه من عادات وتقاليد وموروثات فيسكتوا عنها مؤقتًا لعل الناس أن يفيئوا إلى الهدى، فإذ دخلوا فيه أمكن صرفهم عن ذلك الموروثات العزيزة! ويودون مثلًا لو جاروهم في شيء يسير من رغبات نفوسهم رجاء استدراجهم إلى العقيدة، على أمل أن تتم فيما بعد تربيتهم الصحيحة التي تطرد هذه الرغبات المألوفة!ويودون ويودون من مثل هذه الأماني والرغبات البشرية المتعلقة بنشر الدعوة وانتصارها.. ذلك على حين يريد الله أن تمضي الدعوة على أصولها الكاملة، وفق موازينها الدقيقة، ثم من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. فالكسب الحقيقي للدعوة في التقدير الإلهي الكامل غير المشوب بضعف البشر وتقديرهم.. هو أن تمضي على تلك الأصول وفق تلك الموازين، ولو خسرت الاشخاص في أول الطريق. فالاستقامة الدقيقة الصارمة على أصول الدعوة ومقاييسها كفيل أن يثني هؤلاء الأشخاص أو من هم خير منهم إلى الدعوة في نهاية المطاف، وتبقى مثل الدعوة سليمة لا تخدش، مستقيمة لا عوج فيها ولا انحناء..ويجد الشيطان في تلك الرغبات البشرية، وفي بعض ما يترجم عنها من تصرفات أو كلمات، فرصة للكيد للدعوة، وتحويلها عن قواعدها، وإلقاء الشبهات حولها في النفوس.. ولَكِن الله يحول دون كيد الشيطان، ويبين الحكم الفاصل فيما وقع من تصرفات أو كلمات، ويكلف الرسل أن يكشفوا للناس عن الحكم الفاصل، وعما يكون قد وقع منهم من خطأ في اجتهادهم للدعوة. كما حدث في بعض تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم وفي بعض اتجاهاته، مما بين الله فيه بيانا في القرآن.. بذلك يبطل الله كيد الشيطان، ويحكم الله آياته، فلا تبقى هنالك شبهة في الوجه الصواب.{والله عليم حكيم}.. فأما الذين في قلوبهم مرض من نفاق أو انحراف، والقاسية قلوبهم من الكفار المعاندين؛ فيجدون في مثل هذه الأحوال مادة للجدل واللجاج والشقاق: {وإن الظالمين لفي شقاق بعيد}. وأما الذين أوتوا العلم والمعرفة فتطمئن قلوبهم إلى بيان الله وحكمه الفاصل: {إن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم}..وفي حياة النبي صلى الله عليه وسلم وفي تاريخ الدعوة الإسلامية نجد أمثلة من هذا، تغنينا عن تأويل الكلام، الذي أشار إليه ابن جرير رحمه الله.نجد من ذلك مثالًا في قصة ابن أم مكتوم رضي الله عنه الأعمى الفقير الذي جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله، ويكرر هذا القول والرسول صلى الله عليه وسلم مشغول بأمر الوليد بن المغيرة يود لو يهديه إلى الإسلام ومعه صناديد قريش، وابن أم مكتوم لا يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشغول بهذا الأمر. حتى كره، رسول الله صلى الله عليه وسلم إلحاحه فعبس وأعرض عنه.. فأنزل الله في هذا قرآنًا يعاتب فيه الرسول عتابًا شديدًا:{عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره } وبهذا رد الله للدعوة موازينها الدقيقة وقيمها الصحيحة. وصحح تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي دفعته إليه، رغبته في هداية صناديد قريش، طمعًا في إسلام من وراءهم وهم كثيرون. فبين الله له: أن استقامة الدعوة على أصولها الدقيقة أهم من إسلام أولئك الصناديد. وأبطل كيد الشيطان من الدخول إلى العقيدة من هذه الثغرة، وأحكم الله آياته. واطمأنت إلى هذا البيان قلوب المؤمنين.ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرم ابن مكتوم. ويقول إذا رآه: «مرحبًا بمن عاتبني فيه ربي» ويقول له: «هل لك من حاجة» واستخلفه على المدينة مرتين.كذلك وقع ما رواه مسلم في صحيحه قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي، عن اسرائيل، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن سعد هو ابن أبي وقاص قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر. فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: أطرد هؤلاء لا يجترئون علينا. قال: وكنت أنا وابن مسعود، ورجل من هذيل، وبلال، ورجلان نسيت اسميهما. فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله عز وجل: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} وهكذا رد الله للدعوة قيمها المجردة، وموازينها الدقيقة. ورد كيد الشيطان فيما أراد أن يدخل من تلك الثغرة. ثغرة الرغبة البشرية في استمالة كبراء قريش بإجابة رغبتهم في أن لا يحضر هؤلاء مجلسهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيم الدعوة أهم من أولئك الكبراء، وما يتبع إسلامهم من إسلام الألوف معهم وتقوية الدعوة في نشأتها بهم كما كان يتمنى رسول الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم بمصدر القوة الحقيقية، وهو الاستقامة التي لا ترعى هوى شخصيًّا ولا عرفًا جاريا!ولعله مما يلحق بالمثلين المتقدمين ما حدث في أمر زينب بنت جحش ابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد زوجها من زيد بن حارثة رضي الله عنه وكان قد تبناه قبل النبوة، فكان يقال له: زيد بن محمد. فأراد الله أن يقطع هذا الإلحاق وهذه النسبة فقال تعالى: {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله}.وقال: {وما جعل أدعياءكم أبناءكم} وكان زيد رضي الله عنه أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجه من ابنة عمته زينب بنت جحش رضي الله عنها فلم تستقم بينهما الحياة.. وكانوا في الجاهلية يكرهون أن يتزوج المتبني مطلقة متبناه. فأراد الله سبحانه إبطال هذه العادة، كما أبطل نسبة الولد إلى غير أبيه. فأخبر رسوله صلى الله عليه وسلم أنه سيزوجه من زينب بعد أن يطلقها زيد لتكون هذه السنة مبطلة لتلك العادة ولَكِن النبي صلى الله عليه وسلم أخفى في نفسه ما أخبره به الله. وكان كلما شكا إليه زيد تعذر الحياة مع زينب قال له: {أمسك عليك زوجك} مراعيًّا في هذا كراهية القوم لزواجه منها حين يطلقها زيد. وظل يخفي ما قدر الله إظهاره حتى طلقها زيد.. فأنزل الله في هذا قرأنًا، يكشف عما جال في خاطر الرسول صلى الله عليه وسلم ويقرر القواعد التي أراد الله أن يقوم تشريعه في هذه المسألة عليها:{وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرًا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرًا وكان أمر الله مفعولًا} ولقد صدقت عائشة رضي الله عنها وهي تقول. لو كتم محمد صلى الله عليه وسلم شيئًا مما أوحي إليه من كتاب الله تعالى لكتم: {وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} وهكذا أنفذ الله شريعته وأحكمها، وكشف ما خالج خاطر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهية القوم لزواجه من مطلقة دعيه. ولم يمكن للشيطان أن يدخل من هذه الثغرة. وترك الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم يتخذون من هذه الحادثة، مادة للشقاق والجدال ما تزال!!!هذا هو ما نطمئن إليه في تفسير تلك الآيات. والله الهادي إلى الصواب.ولقد تدفع الحماسة والحرارة أصحاب الدعوات بعد الرسل والرغبة الملحة في انتشار الدعوات وانتصارها.. تدفعهم إلى استمالة بعض الأشخاص أو بعض العناصر بالإغضاء في أول الأمر عن شيء من مقتضيات الدعوة يحسبونه هم ليس أصيلًا فيها، ومجاراتهم في بعض أمرهم كي لا ينفروا من الدعوة ويخاصموها!ولقد تدفعهم كذلك إلى اتخاذ وسائل وأساليب لا تستقيم مع موازين الدعوة الدقيقة، ولا مع منهج الدعوة المستقيم. وذلك حرصًا على سرعة انتصار الدعوة وانتشارها. واجتهادًا في تحقيق مصلحة الدعوة ومصلحة الدعوة الحقيقية في استقامتها على النهج دون انحراف قليل أو كثير. أما النتائج فهي غيب لا يعلمه إلا اللّه.فلا يجوز أن يحسب حملة الدعوة حساب هذه النتائج إنما يجب أن يمضوا على نهج الدعوة الواضح الصريح الدقيق، وأن يدعوا نتائج هذه الاستقامة للّه. ولن تكون إلا خيرا في نهاية المطاف.وها هو ذا القرآن الكريم ينبههم إلى أن الشيطان يتربص بأمانيهم تلك لينفذ منها إلى صميم الدعوة. وإذا كان اللّه قد عصم أنبياءه ورسله فلم يمكن للشيطان أن ينفذ من خلال رغباتهم الفطرية إلى دعوتهم. فغير المعصومين في حاجة إلى الحذر الشديد من هذه الناحية، والتحرج البالغ، خيفة أن يدخل عليهم الشيطان من ثغرة الرغبة في نصرة الدعوة والحرص على ما يسمونه مصلحة الدعوة.. إن كلمة مصلحة الدعوة يجب أن ترتفع من قاموس أصحاب الدعوات، لأنها مزلة، ومدخل للشيطان يأتيهم منه، حين يعز عليه أن يأتيهم من ناحية مصلحة الأشخاص! ولقد تتحول مصلحة الدعوة إلى صنم يتعبده أصحاب الدعوة وينسون معه منهج الدعوة الأصيل!.. إن على أصحاب الدعوة أن يستقيموا على نهجها ويتحروا هذا النهج دون التفات إلى ما يعقبه هذا التحري من نتائج قد يلوح لهم أن فيها خطرا على الدعوة وأصحابها! فالخطر الوحيد الذي يجب أن يتقوه هو خطر الانحراف عن النهج لسبب من الأسباب، سواء كان هذا الانحراف كثيرا أو قليلا. واللّه أعرف منهم بالمصلحة وهم ليسوا بها مكلفين. إنما هم مكلفون بأمر واحد. ألا ينحرفوا عن المنهج، وألا يحيدوا عن الطريق..ويعقب السياق على تلك الآيات وما فيها من صيانة لدعوة اللّه من كيد الشيطان بأن الذين يكفرون بها مدحورون ينتظرهم العذاب المهين:{وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ}.ذلك شأن الذين كفروا مع القرآن كله، يذكره السياق بعد بيان موقفهم مما يلقي الشيطان في أمنيات الأنبياء والرسل، لما بين الشأنين من تشابه واتصال. فهم لا يزالون في ريبة من القرآن وشك. منشأ هذه الريبة أن قلوبهم لم تخالطها بشاشته فتدرك ما فيه من حقيقة وصدق. ويظل هذا حالهم {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} بعد قيام الساعة. ووصف هذا اليوم بالعقيم وصف يلقي ظلا خاصا. فهو يوم لا يعقب.. إنه اليوم الأخير..في هذا اليوم الملك للّه وحده. فلا ملك لأحد، حتى الملك الظاهري الذي كان يظنه الناس في الأرض ملكا. والحكم يومئذ للّه وحده، وهو يقضي لكل فريق بجزائه المقسوم: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}.. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ}.. جزاء الكيد لدين اللّه، وجزاء التكذيب بآياته البينات. وجزاء الاستكبار عن الطاعة للّه والتسليم.. اهـ.
|